في وضح النهار، وعند انتصاف الشمس للسماء تسطع وهجاً في الصحراء القَاحلة.
يتحرك قطيع من الغنم وفي المُقدمة كلب أسود وخلفهم الراعي. تمتلئ الصحراء بالكثير من الكائنات من حيوانات وحشرات ضارية، تكمن في الصحراء مختبئة منتظرة قدوم الفريسة المناسبة، هذا ما يراه الراعي، يهرب من قانون الطبيعة ليُغفل الحقيقة أن الطبيعة ذاتها أسمى وقوانين الطبيعة سواءاً آمنا بها أو أنكرناها فهي قوانين سارية رغم أنف الراعي. الغنم لا ينتظر إلا تعليمات الراعي ويهابونه ويرتعدوا من كلبه الأسود.
***
في ذات اليوم غفل الراعي تحت الشجرة التي إعتاد أن يرتكن إليها كل عصر يومياً حتى تأكل الغنم ما تريد؛ ويشاء القدر أن يَمرَض الكلب الأسود وأصبح جُثة لا يسري فيها إلا النفس .. الروح والجسد مُتعَب.
لم يكن يتربص بهم ذئب أو ثعلب أو أي حيوان ضاري، ولكن من بعيد اقترب منهم تيس، جديٌ عجوز رمادي اللون تتخلله خطوط بيضاء، نظر لهم بشفقة وحدثهم قائلاً:
– يا لكم من قطيع أحمق بائس، تتبعوا الراعي وتخنعوا لعصاه المشقوقة!
فرد أحد الحملان:
– ماذا تريد أيها التيس؟ أتريد أن تُعصينا على مالكنا وولي نعمتنا؟
– يا لك من متحمس يافع! أتعلم إلى أين يقودك؟ وما مصيرك بين يديه؟
زعق بعض الغنم في أصوات متباينة:
– إنه يحمينا من شر الصحراء وما بها من كائنات قد تفتك بنا كالحيوانات الضارية؛ ذئاب كانت أو ضباع أوثعابين أو ما نجهل منها.
– ما مصيرك؟!
– الراعي يعلم، ألا نثق به! ألا نثق بمن يحمينا؟!
– ألن تكونوا طعامه؟ ألن تسدوا جوعه؟!
– ماذا تقصد؟!
– سيروا خلفي وسأضمن لكم عدم تورطكم، وستجولوا في الصحراء الواسعة.
رد الحمل مُتردداً:
– أنا مُقتنع ببعض كلامك، ولكن إلى أين سنذهب؟
صاح الخروف العجوز الذي يبدو عليه الضيق بسبب هذه المُحادثة:
– إرجع أيها الأحمق، كيف تفكر بهذا الشكل! أستتبع التيس ذو الرائحة العَفِنة؟
رمق التيس الحمل بنظرة شفقة ممتزجة بالأسى لحاله..
فهرع الحمل قائلاً:
– سأذهب معه، من سيأتي معي؟
صمتت جميع الخراف ولم تَرُد بشيء، فودعهم الحمل ولم ينبسوا بشيء.
***
في الطريق، نهاية الأفق حيث اختفى الغنم، فتحدث الحمل راغباً في كسر الصمت منذ رحيله مع التيس.
– ماذا سنفعل أيها التيس؟
لم ينطق التيس، نظر له نظرة مُصمتة خالية من الشعور، وأكمل مسيرته، والحمل يتبعه.
***
حل الليل، الظلامُ الدامس حيث لا قمر تتوسد السماء ولا توجد غي النجوم ذات الضوء الخافت.
همسات الفئران البرية، وهمهمات الطيور الليلية تخرق أُذنا الحمل. يرتعدُ خوفاً.
فينهض ليرتكن بجوار التيس ويحدثه قائلاً:
– إني خائف، ألسنا في مأمن؟
وبالنظرة المُصمتة ذاتها رد التيس:
– أتظن ذلك؟
وأتبعها بضحكة خفيفة صفراء مُعلقاً:
– يالك من حمل بائس!
تعجب الحمل وزاد ذُعره، وقال والرعشة تسري في عموده الفقري:
– لقد أغويتني أيها التيس، عليك اللعنة!
فعاجله التيس قائلاً بتهكم:
– لم يكن عليك الرحيل معي أو البقاء معهم، إنك أحمق، مُجرد تابع، أكمل طريقك معي للنهاية.
– كيف لي أثق بك، وأُكمل معك الطريق؟
– لا علاقة للثقة بالطريق.
سئم الحمل حديث التيس وابتسامته الصفراء، فركض بعيداً عن التيس، وكل ما يسمعه صوت ضحكات غالية تتباعد.
***
أمسى الليل والظلام ملاذ الحمل، كيف يعود ويرجع..
اشتاق للراعي وعصاه، وحزن لرحيله عن التيس، أمسى عُرضه للضواري.
العواء يملأ الليل، سكون الليل أمسى مُستحيلاً، ووجد الحمل شجرة ولم يملك إلا أن يمكث تحتها، جسده يلتصق بها، وأخذ ينتظر لحين بزوغ الفجر.