المعرفة قلب الحياة ونبراسها، ينزل المولود إلى الدنيا عاريا متجرداً من كل شيء؛ بعدما كان في شرنقة تؤمن له الغذاء والأمان، بعدما نُفخت فيه الروح.
العقل الخاوي الساذج يَرتطم بالواقع وبكل مافيه من كلمات وأفكار. يطبع لك والديك بطاقة يخطوها بأيديهم يملأون فراغاتها من عقيدة وأسلوب حياة وآراء. لا أقف معارضاً لفعلتهم ولكن أُهاجم ترسيخهم للأفكار وقولبتها بحيث لا يمكنك نقدها أو تعديلها بسهولة فهي كالنقش على الحجر.
المعرفة تُصبح نمطاً واحداً تُرغم على الفعل، تُقلل من شأن العقل، العقل الذي هو العضو القادر على دراسة هذه المعرفة ونقدها وتصحيح ما بها من أفكار. أصبحت المعرفة عُرفاً، حتى تتبع القطيع، وتقتات مما تُساق إليه.
المهندس أصبح مهندساً ﻷنها وظيفة مُربحة وذات قيمة إجتماعية تُحسن من الوضع الإجتماعي بين الأقران وتُدر مزيداً من الربح والمال.
الطبيب الذي لم يَعد حَكيماً فَيَطِبُ ليجني المال ويبتاع سيارة فارهة، وتكون له خيمة واحدة ليعتاد عليه طالبي العلاج والمرضى ومرةً أُخرى الوضع الإجتماعي.
وأصبح الكل يبحث عن المال لكي يعيشوا حياة كريمة.
ضابط الشرطة الذي يبحث عن ويطلب غَصباً عن وضع إجتماعي في الحياة المدنية. ووعسكري المرور الذي يبحثُ عن نفحة صغيرة لكي يدفع قسط منزل ومن الممكن أن يكون إيجاراً.
المحامي العالمُ بأمور القوانين كثرتهم تُفضي لإنفلات في القوانين والكل يريد الربح.
لا أنكر القلة المُحترمة، الذين يعيشون من أجل إرساء الحياة الطبيعية الفطرية ولكن نقدي واجبٌ علي.
أصبحت المعرفة تساوي مالاً، تساوي ربحاً، والتطور أمرٌ جبري من أجل التطور إذا وجدَ التطور.
أصبحت المعرفة في الهيئات التعليمية صورة، مبدأ مثالي يُنكر الجميع إمكانية تحقيقه إلا من أجل النفع الفوري والربح السريع .
يداعب الأولاد في المدارس هواتفهم الجوالة وفي منازلهم الحواسب؛ وقتُ ضائع.
مهما طوروا المناهج التعليمية يبقى تطوير المجتمع مهملاً، مهما حذفوا وأضافوا للمُقررات الدراسية ظل الولد لا يفقه ما يفعل إلا بعد فوات الأوان بعد عبور جسر التعليم ويصير ما يصير.
على الرغم من كون مجانية التعليم قِيمة لا يستهان بها، ويستفيد منها غير القادر؛ ولكن لم يُستفاد بهذه المجانية والإتاحة للجميع خلق مستوى تعليم ثقافي عام للمجتمع، بل أساء المجتمع تقدير هذه المجانية وحسبها تساوي ثمنها الذي يدفعه مقابل الحصول عليها، على الرغم من أن المجتمع يدفع التكاليف بطريقة غير مباشرة عن طريق الضرائب المفروضة عليه.
نظرة قاتمة: ها أنا أنظر للمؤسسة التعليمية العامة نظرة قاتمة وأرى أنه لا بد من هدمها وتدشين أُخرى قائمة على قانون الكفاءة الذي ينص أن الخرج على الدخل لابُد من زيادته إطرادياً مع الزمن، أو حل هذه المنظومة باكملها وترك البحث الحر عن العلم يبقى، حتى يُقدر المجتمع قيمة العلم والمعرفة التي يطلبها، لا وسيلة سريعة لإيجاد مكان في سوق العمل لأشخاص غير مؤهلين فكرياً لهذا العمل، وتوفير الوقت الضائع في الهيئة التعليمية.
قد أبدو قاسياً بعض الشيء ولكن الحقيقة قاسية. وقد تكون نظرتي من جانب واحد على المؤسسة التعليمية، ولكن هذه هي نظرتي الحالية.
أنا مؤمن بضرورة زرع أساس مَعرفي للمجتمع. ورافض لسوء استخدام المؤسسات كمضيعة للوقت وتكوين فكر حجري غير نقدي مبني على الحفظ والتلقين والتكرار والترديد كالبغبغاوات. والحزن كل الحزن عندما يُطلب من طالب علم الإقرار بفكرة بدون مراجعتها وكتابتها عنوة حتى يعبر الجسر.
أتمنى من التخلص من مشكلة التخصص الدقيق الذي أصبحت تُغطي على الفكر ، على الرغم من قدرتها على التطوير ولكنها تُفقد الفرد انسانيته وتمنعه من النظر بشمولية، وأتمنى رجوع موسوعية الأقدمين، أو على الأقل وجودالأساس المعرفي كقشرة ثقافية لتُغطي فِكر الفرد.
نهاية: أرى في الأفق شابٌ يُناقش معلمه ويجادله ويكتسب معرفة ليكون قادراً على المساهمة في بناء مجتمع بشكل يَعيه جيداً ويصحح الأفكار وينقد الأخطاء، ويدشن مدينة فاضلة بل مجتمعاً فاضل.